الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وأما باقي السباع فالمنصوص عليه في ظاهر الرواية عدم الاستثناء وأنه يجب بقتلها الجزاء ولا يجاوز شاة إن ابتدأها المحرم وإن ابتدأته فلا شيء عليه وذلك كالأسد والفهد والنمر والصقر والبازي، وأما «صاحب البدائع» فيقسم البري إلى مأكول وغيره، والثاني: إلى ما يبتدىء بالأذى غالبًا كالأسد والذئب والنمر وإلى ما ليس كذلك كالضبع والفهد والثعلب فلا يحل قتل الأول والأخير إلا أن يصول ويحل قتل الثاني ولا شيء فيه وإن لم يصل، وجعل ورود النص في الفواسق ورودًا فيها دلالة ولم يحك خلافًا، لكن في «الخانية»: وعن أبي يوسف الأسد بمنزلة الذئب.وفي ظاهر الرواية السباع كلها صيد إلا الكلب والذئب؛ ولعل استثناء الذئب لذكره في المستثنيات على ما أخرجه أبو شيبة والدارقطني والطحاوي وقيل: لأنه المراد بالكلب العقور في الخبر السابق، وقيل: لأنه بمعناه فيلحق به دلالة.وأما الكلب فقد جاء استثناؤه في الحديث إلا أنه وصف فيه بالعقورية، ولعل الإمام إنما يعتبر الجنس.ونظر فيه بأنه يفضي إلى إبطال الوصف المنصوص عليه.وأجيب بأنه ليس للقيد بل لإظهار نوع إذائه فإن ذلك طبع فيه، وقال سعدي جلبي: لو صح هذا النظر يلزم اعتبار مفهوم الصفة بل سائر المفاهيم وهو خلاف ما في أصولنا، وأما كون السباع كلها صيدًا إلا ما استثني ففيه خلاف للشافعي رضي الله تعالى عنه أيضًا فعنده هي داخلة في الفواسق المستثنيات قياسًا أو ملحقة بها دلالة لأن الكلب العقور يتناولها لغة.وأجاب بعض الأصحاب بأن القياس على الفواسق ممتنع لما فيه من إبطال العدد وكذلك الإلحاق بها دلالة لأن الفواسق مما تعدو علينا للقرب منا والسبع ليس كذلك لبعده عنا فلا يكون في معنى الفواسق ليلحق بها، واسم الكلب وإن تناوله لغة لم يتناوله عرفًا والعرف أقوى وأرجح في هذا الموضع كما في الأيمان لبنائه على الاحتياط، وفيه بحث طويل الذيل فتأمل.وأخرج مسلم عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه قال: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجًا وخرجنا معه فصرف نفرًا من أصحابه فيهم أبو قتادة فقال: خذوا ساحل البحر حتى تلقوني قال: فأخذوا ساحل البحر فلما انصرفوا قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرموا كلهم إلا أبا قتادة فإنه لم يحرم فبينما هم يسيرون إذ رأوا حمر وحش فحمل عليها أبو قتادة فعقر منها أتانًا فنزلوا فأكلوا من لحمها قال فقالوا: أكلنا لحمًا ونحن محرمون قال: فحملوا ما بقي من لحم الأتان فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله إنا كنا أحرمنا وكان أبو قتادة لم يحرم فرأينا حمر وحش فحمل عليها أبو قتادة فعقر منها أتانًا فنزلنا فأكلنا من لحمها فقلنا: نأكل لحم صيد ونحن محرمون فحملنا ما بقي من لحمها فقال عليه الصلاة والسلام: هل معكم أحد أمره أو أشار إليه بشيء؟ قالوا: لا قال: فكلوا ما بقي من لحمها».وفي رواية لمسلم أنه: صلى الله عليه وسلم قال: «هل عندكم منه شيء؟ قالوا: معنا رجله فأخذها عليه الصلاة والسلام فأكلها».وحديث جابر مؤول بوجهين الأول: كون اللام للملك، والمعنى أن يصاد ويجعل له فيكون مفاده تمليك عين الصيد من المحرم وهو ممتنع أن يتملكه فيأكل من لحمه، والثاني: الحمل على أن المراد أن يصاد بأمره وهذا لأن الغالب في عمل الإنسان لغيره أن يكون بطلب منه، والتزام التأويل دفعًا للتعارض كما قال غير واحد.وقال ابن الهمام وقد يقال: القواعد تقتضي أن لا يحكم بالتعارض بين حديث جابر وبين الخبرين الأولين من هذه الأخبار الثلاثة لأن قول طلحة: فأمرنا بأكله مقيد عندنا بما إذا لم يدله المحرم على الصحيح خلافًا لأبي عبد الله الجرجاني ولا أمره بقتله على ما يدل عليه حديث أبي قتادة فيجب تخصيصه بما إذا لم يصد للمحرم بالحديث الآخر.وحديث الزبير حاصله نقل وقائع أخبار وهي لا عموم لها فيجوز كون ما كانوا يحملونه من لحوم الصيد للتزويد ما لم يصد لأجل المحرمين بل هو الظاهر لأنهم يتزودونه من الحضر ظاهرًا والإحرام بعد الخروج إلى الميقات، فالأولى الاستدلال على أصل المطلوب بحديث أبي قتادة المذكور على وجه المعارضة فإنه أفاد أنه عليه الصلاة والسلام لم يجب بحله لهم حتى سألهم عن موانع الحل أكانت موجودة أم لا؟ فلو كان من الموانع أن يصاد لهم لنظمه صلى الله عليه وسلم في سلك ما يسأل عنه منها في التفحص عن الموانع ليجيب بالحل عند خلوه عنها.وهذا المعنى كالصريح في نفي كون الاصطياد مانعًا فيعارض حديث جابر ويقدم عليه لقوة ثبوته إذ هو في «الصحيحين» وغيرهما من «الكتب الستة» بخلاف ذلك بل قيل في حديث جابر انقطاع لأن المطلب في سنده لم يسمع من جابر عند غير واحد، وكذا في رجاله من فيه لين، وبعد ثبوت ما ذهبنا إليه بما ذكرنا يقوم دليل على ما ذكر من التأويل انتهى.وأنت تعلم أن في حديث جابر أيضًا شيئًا من جهة العربية ولعل الأمر فيه سهل.بقي أن حديث الصعب بظاهره يعارض ما استدل به أهل المذهبين الأخيرين، واختار بعض الحنفية في الجواب بأن فيه اضطرابًا ليس مثله في حديث قتادة حتى روى عمرو بن أمية الضمري عن أبيه أن الصعب أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم عجز حمار وحش بالجحفة فأكل منه عليه الصلاة والسلام وأكل القوم فكان حديث قتادة أولى وقد وقع ما وقع فيه في الحج كما تحكيه الرواية التي ذكرناها، ومعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحج بعد الهجرة إلا حجة الوداع، وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه في الجواب: يحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم علم أنه صيد له فرده عليه فلا يعارض حديث جابر، وتعليله عليه الصلاة والسلام الرد بأنه محرم لا يمنع من كونه صيد له لأنه إنما يحرم الصيد على الإنسان إذا صيد له بشرط أن يكون محرمًا، فبين صلى الله عليه وسلم الشرط الذي يحرم به، وقيل: إن جابرًا إنما أهدى حمارًا فرده صلى الله عليه وسلم لامتناع تملك المحرم الصيد، ولا يخفى أن الروايات الدالة على البعضية أكثر ولا تعارض بينها فتحمل رواية أنه أهدى حمارًا على أنه من إطلاق اسم الكل على البعض ويمتنع هنا العكس إذ إطلاق الرجل مثلًا على كل الحيوان غير معهود، وقد صرحوا أنه لا يجوز أن يطلق على زيد أصبع ونحوه لأن شرط إطلاق اسم البعض على الكل التلازم كالرقبة والرأس على الإنسان فإنه لا إنسان دونهما بخلاف نحو الرجل والظفر، وأما إطلاق العين على الرؤية فليس من حيث هو إنسان بل من حيث هو رقيب وهو من هذه الحيثية لا يتحقق بلا عين أو هو أحد معاني المشترك اللفظي كما عده كثير منها فليتيقظ.{واتقوا الله} فيما نهاكم عنه من الصيد أو في جميع المعاصي التي من جملتها ذلك {الذى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} لا إلى غيره حتى يتوهم الخلاص من أخذه تعالى بالالتجاء إلى ذلك الغير. اهـ.
.من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة: قال رحمه الله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ}.بَيِّنًا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ (90) أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ افْتُتِحَتْ بِآيَاتٍ مِنْ أَحْكَامِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ فِي الطَّعَامِ وَأَحْكَامِ النُّسُكِ {وَمِنْهَا الصَّيْدُ فِي أَرْضِ الْحَرَامِ أَوْ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ} وَتَلَاهَا سِيَاقٌ طَوِيلٌ فِي بَيَانِ أَحْوَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمُحَاجَّتِهِمْ، ثُمَّ عَادَ الْكَلَامُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ تَفْصِيلِ تِلْكَ الْأَحْكَامِ إِلَخْ، وَنَقُولُ الْآنَ إِنَّ اللهَ جَلَّتْ آلَاؤُهُ نَهَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ تَحْرِيمِ الطَّيِّبَاتِ وَمِنَ الِاعْتِدَاءِ فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا، وَأَمَرَهُمْ بِأَكْلِ الْحَلَّالِ وَالطَّيِّبِ، وَلَمَّا كَانَ بَعْضُ الْمُبَالِغِينَ فِي النُّسُكِ قَدْ حَلَفُوا عَلَى تَرْكِ بَعْضِ الطَّيِّبَاتِ بَيَّنَ لَهُمْ بِهَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ كَفَّارَةَ الْأَيْمَانِ، ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمْ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ لِأَنَّهَا مِنْ أَخْبَثِ الْخَبَائِثِ، فَكَانَ هَذَا وَذَاكَ مُتَمِّمًا لِمَا فِي أَوَّلِ السُّورَةِ مِنْ أَحْكَامِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَنَاسَبَ أَنْ يُتَمِّمَ أَحْكَامَ الصَّيْدِ فِي الْحُرُمِ وَالْإِحْرَامِ أَيْضًا فَجَاءَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ فِي ذَلِكَ.وَقَالَ الرَّازِيُّ فِي مُنَاسَبَةِ هَذَا لِمَا قَبْلَهُ مَا نَصُّهُ: وَوَجْهُ النَّظْمِ أَنَّهُ تَعَالَى كَمَا قَالَ: {لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ} (5: 87) ثُمَّ اسْتَثْنَى الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ مِنْ تِلْكَ فَكَذَلِكَ اسْتَثْنَى هَذَا النَّوْعَ مِنَ الصَّيْدِ عَنِ الْمُحَلَّلَاتِ وَبَيَّنَ دُخُولَهُمْ فِي الْمُحَرَّمَاتِ انْتَهَى وَمَا قُلْنَاهُ خَيْرٌ مِنْهُ وَأَصَحُّ، وَلَيْسَ الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَيُسْتَثْنَيَانِ مِنْهَا بَلْ هُمَا رِجْسٌ خَبِيثٌ.{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} الِابْتِلَاءُ: الِاخْتِبَارُ، وَالصَّيْدُ مَصْدَرٌ أُطْلِقَ عَلَى مَا يُصْطَادُ مِنْ حَيَوَانِ الْبَحْرِ مُطْلَقًا وَمِنْ حَيَوَانَاتِ الْبَرِّ الْوَحْشِيَّةِ لِتُؤْكَلَ، وَقِيلَ مُطْلَقًا فَيَدْخُلُ فِيهِ غَيْرُ الْمَأْكُولِ لَحْمَهُ إِلَّا مَا أُبِيحَ قَتْلُهُ كَمَا يَأْتِي وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُ الْكَلَامِ فِي الصَّيْدِ فِي تَفْسِيرِ أَوَّلِ السُّورَةِ، وَسَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ التَّالِيَةِ الْخِلَافُ فِيمَا يُكَفِّرُ بِهِ الْمُحْرِمُ عَنْ صَيْدِهِ وَوَصْفُ الصَّيْدِ بِكَوْنِهِ تَنَالُهُ الْأَيْدِي وَالرِّمَاحُ يُرَادُ بِهِ كَثْرَتُهُ وَسُهُولَةُ أَخْذِهِ، وَإِمْكَانُ الِاسْتِخْفَاءِ بِالتَّمَتُّعِ بِهِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ: أَنَّهُ مَا يُؤْخَذُ بِالْأَيْدِي صِغَارُهُ وَفِرَاخُهُ وَبِالرِّمَاحِ كِبَارُهُ، وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ: فَكَانَ الْوَحْشُ وَالطَّيْرُ تَغْشَاهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَمْ يَرَوْا مِثْلَهُ قَطُّ فِيمَا خَلَا، فَنَهَاهُمُ اللهُ عَنْ قَتْلِهِ وَهُمْ مُحْرِمُونَ.وَوَجْهُ الِابْتِلَاءِ بِذَلِكَ أَنَّ الصَّيْدَ أَلَذُّ الطَّعَامِ وَأَطْيَبُهُ، وَنَاهِيكَ بِاسْتِطَابَتِهِ وَبِشِدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ فِي السَّفَرِ الطَّوِيلِ كَالسَّفَرِ بَيْنَ الْحَرَمَيْنِ، وَسُهُولَةِ تَنَاوُلِ اللَّذِيذِ تُغْرِي بِهِ، فَتَرْكُ مَا لَا يُنَالُ إِلَّا بِمَشَقَّةٍ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّقْوَى وَالْخَوْفِ مِنَ اللهِ تَعَالَى كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَرْكُ مَا يُنَالُ بِسُهُولَةٍ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ مِنَ الْعِصْمَةِ أَلَّا نَجِدَ، وَهَلْ يُعَدُّ تَرْكُ الزِّنَا مِمَّنْ لَا يَصِلُ إِلَيْهِ إِلَّا بِسَعْيٍ وَبَذْلِ مَالٍ وَتَوَقُّعِ فَضِيحَةٍ كَتَرْكِ يُوسُفَ الصِّدِّيقِ لَهُ إِذْ غَلَّقَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْأَبْوَابَ دُونَهُ وَقَالَتْ: هَيْتَ لَكَ؟وَالْمَعْنَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ تَعَالَى يُقْسِمُ بِأَنَّهُ سَيَخْتَبِرُكُمْ بِإِرْسَالِ شَيْءٍ كَثِيرٍ مِنَ الصَّيْدِ أَوْ بِبَعْضٍ مِنْ أَنْوَاعِهِ يَسْهُلُ عَلَيْكُمْ أَخْذُ بَعْضِهِ بِأَيْدِيكُمْ وَبَعْضِهِ بِرِمَاحِكُمْ {لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} أَيْ يَبْتَلِيكُمْ بِهِ وَأَنْتُمْ مُحْرِمُونَ لِيَعْلَمَ مَنْ يَخَافُهُ غَائِبًا عَنْ نَظَرِ النَّاسِ غَيْرَ مُرَاءٍ وَلَا خَائِفٍ مِنْ إِنْكَارِهِمْ، فَيَتْرُكُ أَخْذَ شَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ وَيَخْتَارُ شَظَفَ الْعَيْشِ عَلَى لَذَّةِ اللَّحْمِ خَوْفًا مِنَ اللهِ تَعَالَى وَطَاعَةً لَهُ فِي سِرِّهِ، أَوْ يَخَافُهُ حَالَ كَوْنِهِ مُتَلَبِّسًا بِالْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ الَّذِي يَقْتَضِي الطَّاعَةَ فِي السِّرِّ وَالْجَهْرِ، فَإِذَا وَقَعَ ذَلِكَ مِنْكُمْ عَلِمَهُ اللهُ تَعَالَى لِأَنَّ عِلْمَهُ يَتَعَلَّقُ بِالْوَاقِعِ الثَّابِتِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى عِلْمِهِ بِهِ رِضَاهُ عَنْكُمْ وَإِثْبَاتُكُمْ عَلَيْهِ كَمَا يَعْلَمُ حَالَ مَنْ يَعْتَدِي فِيهِ، وَقَدْ بَيَّنَ جَزَاءَهُ فِي الْجُمْلَةِ الْآتِيَةِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى مَا حَذَفَ مِنْ جَزَاءِ مَنْ يَخَافُهُ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ الْمُرَادَ بِمِثْلِ هَذَا التَّعْبِيرِ أَنَّهُ تَعَالَى يُعَامِلُكُمْ مُعَامَلَةَ الْمُخْتَبِرِ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَعْلَمَ الشَّيْءَ وَإِنْ كَانَ عَلَّامَ الْغُيُوبِ، لِأَنَّ هَذَا مِنْ ضُرُوبِ تَرْبِيَتِهِ لَكُمْ وَعِنَايَتِهِ بِتَزْكِيَتِكُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذَا التَّعْلِيلِ بِعِلْمِ اللهِ تَعَالَى.{فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أَيْ فَمَنِ اعْتَدَى بِأَخْذِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ الصَّيْدِ بَعْدَ ذَلِكَ الْبَيَانِ وَالْإِعْلَامِ الَّذِي أَخْبَرَكُمُ اللهُ بِهِ قَبْلَ وُقُوعِهِ فَلَهُ عَذَابٌ شَدِيدٌ الْأَلَمِ فِي الْآخِرَةِ قِيلَ: وَفِي الدُّنْيَا بِالتَّعْزِيرِ وَالضَّرْبِ لِأَنَّهُ لَمْ يُبَالِ بِاخْتِبَارِ اللهِ لَهُ، بَلْ سَجَّلَ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ لَا يَخَافُ اللهَ تَعَالَى بِالْغَيْبِ، وَلَكِنَّهُ قَدْ يَخَافُ لَوْمَ الْمُؤْمِنِينَ وَتَعْزِيرَهمْ إِذْ هُوَ أَخَذَ شَيْئًا مِنَ الصَّيْدِ بِمَرْأَى مِنْهُمْ، وَهَذَا شَأْنُ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ هُمْ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ، لَا شَأْنُ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ الْأَبْرَارَ.{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} هَذَا النِّدَاءُ تَوْطِئَةٌ لِبَيَانِ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ الْمُعْتَدِي فِي الصَّيْدِ مِنَ الْجَزَاءِ وَالْكَفَّارَةِ فِي الدُّنْيَا، سَبَقَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ تَحْرِيمُ الصَّيْدِ عَلَى مَنْ كَانَ مُحْرِمًا بِحَجٍّ أَوْ عُمَرَةٍ وَمَنْ كَانَ فِي أَرْضِ الْحَرَمِ، وَقَدْ أَعَادَهُ هُنَا لِيُرَتِّبَ عَلَيْهِ جَزَاءَهُ، وَتَقَدَّمَ هُنَاكَ أَنَّ الْحُرُمَ بِضَمَّتَيْنِ جَمْعُ حَرَامٍ وَهُوَ الْمُحْرِمُ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ وَإِنْ كَانَ فِي الْحِلِّ.{وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} أَيْ وَمَنْ قَتَلَ شَيْئًا مِنَ الصَّيْدِ وَهُوَ مُحْرِمٌ قَاصِدٌ لِقَتْلِهِ فَجَزَاؤُهُ أَوْ فَعَلَيْهِ جَزَاءٌ مِنَ الْأَنْعَامِ مُمَاثِلٌ لِمَا قَتَلَهُ فِي هَيْئَتِهِ وَصُورَتِهِ إِنْ وُجِدَ، وَإِلَّا فَفِي قِيمَتِهِ، وَقِيلَ: فِي قِيمَتِهِ مُطْلَقًا وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ، قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ {فَجَزَاءٌ} بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِينِ و{مِثْلُ} الرَّفْعِ وَالْإِضَافَةِ لِمَا بَعْدَهُ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِإِضَافَةِ جَزَاءٍ إِلَى مِثْلِ وَهُوَ مُخَرَّجٌ عَلَى أَنَّ مِثْلَ الشَّيْءِ عَيْنُهُ، عَلَى حَدِّ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} أَوْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ خَاتَمِ فِضَّةٍ أَيْ مِنْ فِضَّةٍ، وَأَنَّ الْمَعْنَى فَعَلَيْهِ جَزَاءُ الَّذِي قَتَلَهُ، أَيْ جَزَاءٌ عَنْهُ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَصْلُهُ «فَجَزَاءٌ مِثْلَ مَا قَتَلَ» بِنَصْبِ مِثْلٍ بِمَعْنَى فَعَلَيْهِ أَنْ يَجْزِيَ مِثْلَ مَا قَتَلَ مِنَ النِّعَمِ ثُمَّ أُضِيفَ كَمَا نَقُولُ: عَجِبْتُ مِنْ ضَرْبِ زَيْدًا، ثُمَّ مِنْ ضَرْبِ زَيْدٍ. اهـ.
|